انتهى الحوار القصير، وغادرت سريعاً، وطلبت من سكرتيرى جمع أوراقى، ثم توجهت إلى منزلى، وعلى الرغم من أننى كنت أتوقع القرار، فإننى لم أجد له تفسيراً. استرجعت جميع تصرفاتى قبل وأثناء وبعد المعركة، فلم أجد ما يشيننى فيها جميعاً، لكننى كنت أشعر بخجل شديد أمام أسرتى وإخوتى، ولم أستطع إخفاء عصبيتى حتى إننى انفجرت غاضباً فى ابنى أثناء حواره معى وقلت له: «أبوك لم يخطئ ولم يكن جباناً، بل أدى واجبه كاملاً وأكثر وستثبت لك الأيام ذلك».
لم أتوقف عن التفكير فى أسباب إحالتى للتقاعد، وفى اليوم التالى، فكرت فى إرسال خطاب للرئيس جمال عبدالناصر، أشرح له فيه موقفى وصدمتى فى قرار استبعادى، وهو ما حدث، كتبت الخطاب وأرسلته ولم أنتظر طويلاً.
فبعد 10 ساعات من إرسال الخطاب، فوجئت باتصال تليفونى من الفريق أول محمد فوزى، وطلب منى أن أزوره فى مكتبه فتوجهت إليه دون تردد بملابسى المدنية، وفور دخولى عليه، بادرنى بالقول إن «الرئيس أمر بعودتك إلى الخدمة وستتولى رئاسة هيئة التدريب». فقلت له إننى أشكر السيد الرئيس، لكننى قبل عودتى أريد معرفة سبب القرار السابق بإحالتى إلى التقاعد، فكان رده: «هذا الموضوع انتهى ويجب عدم الخوض فيه».
عدت إلى الخدمة، محملاً بآمال وطموحات كبيرة فى أن يكون لى شأن ودور فى المعركة المقبلة، اقتناعاً منى بأن القوات المسلحة فى حاجة إلى كل جهد وكل علم فى هذه المرحلة الحاسمة من تاريخها. وخلال الأيام العشرة الأولى من رئاستى هيئة التدريب، كان أهم ما ركزت عليه هو إنشاء ما يُسمى «مدارس المعركة المتحركة»، وهى باختصار تعتمد على إرسال ضباط وفنيين من إدارة التدريب المركزية إلى الجبهة لتدريب الضباط وضباط الصف فى فرق تعليمية قصيرة مركزة، وكان لهذه المدارس المتحركة دور كبير فى ذلك الوقت، لأن الظروف لم تكن تسمح بعودة الضباط وضباط الصف للتدريب فى القاهرة وتغيبهم عن مواقعهم.
وأثناء رئاستى هيئة التدريب، أتيحت لى فرصة أن أرافق كبير الخبراء العسكريين السوفيت، جنرال لاشنكوف فى المرور على الجبهة، ولا أنكر أن شخصية هذا الجنرال وعلمه ومعلوماته كان لها تأثير كبير فى نفسى، وأقولها صراحة بأنه قائد بارع من جميع النواحى، وأننى حصلت من خلال مصاحبتى له واجتماعى به عدة مرات بعد ذلك على معلومات لها قيمتها.
وفى يوم 25 يونيو 67 استدعانى القائد العام وأبلغنى بقرار سيصدر بتعيينى قائداً للجبهة خلفاً للفريق صلاح الدين محسن اعتباراً من 1 يوليو 1967، وأمرنى بالاستعداد لذلك، كما نبه علىّ بضرورة المرور عليه لمقابلته قبل أن أتسلم العمل.
أعترف كرئيس أركان لقوات جبهة سيناء: لم أكن أعلم على وجه اليقين مهمة القوات التى تم حشدها فى 67 بشبه الجزيرة
عدت إلى مكتبى وأنا أفكر فى هذا المهمة الصعبة فى ذلك الوقت، فقد كنت عائداً من الجبهة قبل أيام قليلة، وكنت أشارك الفريق صلاح محسن أحلك الأوقات، كما سبق لنا التعاون معاً فى إعادة تنظيم القوات وتسكينها غرب القناة، وحين صدرت لى الأوامر، كان الموقف على الجبهة يتلخص فى الآتى: القوات مهلهلة تفتقد القيادات والتنظيم، وحالة المعدات سيئة للغاية ومعظمها تالف، وبعض الأسلحة تنقصه الذخيرة، والدبابات معطلة، بما فى ذلك طرازات T34، T55، T54، GS، والروح المعنوية منخفضة للغاية، خاصة أن كثيراً من هذه القوات عاد من سيناء سيراً على الأقدام دون طعام أو مياه، وكان الأسوأ من ذلك أن الجنود فقدوا الثقة فى ضباط الصف، وضباط الصف فقدوا الثقة فى الضباط، والضباط فقدوا الثقة فى قادتهم، والقيادة فقدت الثقة فى هذه القوات.
كانت هذه الصورة الواضحة بالنسبة لحال القوات، أما الحالة الاستراتيجية، فيمكن تلخيصها فى: رقعة من أرض الوطن يحتلها العدو، وجبهة قتال مكشوفة، وسيطرة جوية كاملة للعدو على غرب القناة، وقوات ضئيلة جداً ومبعثرة وأسلحة غير صالحة للعمل، وروح معنوية منهارة نتيجة الصدمة العصبية التى جعلت اليأس يسيطر على تفكير البعض.
كنت أتأمل الجبهة، فأرى جنوداً فى ملابس مهلهلة، لم يغتسلوا منذ أيام طويلة، حتى وصل الأمر إلى أن الضبط والربط الذى هو عقيدة أساسية للقوات المسلحة تحول إلى قرار اختيارى، باختصار كان الموقف ميئوساً منه تماماً، خاصة أن العدو كان أمامنا يتباهى بقوته وانتصاره على مرأى من أعين جنودنا، ووصل إلى درجة أن أفراد جيش الاحتلال كانوا يسبحون فى قناة السويس، وإذا أطلق أحد جنودنا طلقة واحدة، يردون علينا بالعشرات، وكان مجموع القوات عند تسلمى الجبهة كالآتى: الفرقة السادسة بقيادة اللواء سعدى نجيب والفرقة الثانية بقيادة اللواء عبدالسلام توفيق، رئيس أركانه وتشمل الكتيبة 120 واللواء الرابع واللواء أول مدرع الذى كان مجموع دباباته يوازى كتيبة مدرعة، أى أنها كانت بقايا الفرقة المدرعة.
أصررت على اختيار اللواء محمد عبدالغنى الجمسى، والعميد حسن الجريدلى؛ لإنجاح المهمة التى كُلفت بها، وليتحملا معى مسئولية إعادة تنظيم الجبهة. وقتها رفض الفريق أول محمد فوزى طلبى هذا بحجة الأقدمية. لكننى أصررت على الموقف حتى صدر قرار رئاسى بذلك.
انشغلت فى تلك الفترة بإجراء تقدير موقف سريع ووضعت لنفسى أهدافاً محددة، أهمها: إعادة تنظيم القوات وشئونها الإدارية وتدريبها وإعادة الضبط والربط إليها، وإعادة الثقة فى نفوس الأفراد وبث الروح القتالية، والمحافظة على أمن القوات، ومنع العدو بجميع الوسائل والإمكانات المتيسرة من عبور قناة السويس، والرد بعنف على اشتباكات العدو الخاطفة.
وطوال الشهور الثلاثة التالية، عملت على رفع الروح المعنوية للقوات من خلال بعض الإجراءات والعمليات، كان أهمها معركة رأس العش، وتدمير المدمرة إيلات وإغراقها، وتسلم الأسلحة والذخائر والمعدات الجديدة وتكثيف الفرق التعليمية وإعطاء الثقة للجنود والضباط فى أسلحتهم والمرور المستمر على الوحدات يومياً.
كان رفع الروح المعنوية للجنود يتمثل فى خوض معركة قتالية ناجحة ومنها معركة رأس العش، بعد أن اعتقد الشعب المصرى والعالم بأكمله أن القوات المسلحة المصرية انتهت بنكسة 5 يونيو، ولكن يشاء الله أن يوفَِّق الجنود المصريين فى تحقيق نجاح منقطع النظير خلال معركة رأس العش بفضل التخطيط الدقيق، فعندما انسحبت القوات المسلحة أصبحت كل مدن القناة خالية من القوات، عدا مدينة واحدة هى بورفؤاد التى كان بها قوة عسكرية بسيطة، وكان هدفنا أن نمنع سقوط مدينة بورفؤاد فوضعنا فيها قوة بسيطة جداً تؤمّن الدخول إليها من جنوب شرق القناة. على الجانب الآخر كانت القوات الإسرائيلية تجهز للوصول إلى بورفؤاد هى الأخرى عبر هذا الجزء الضيق للغاية الذى يشبه الرأس، وكان يطلق عليها اسم طريق البركة، وقامت معركة رأس العش وانتصرت قوة الجيش البسيطة الصغيرة وبقيت بورفؤاد سالمة وارتفعت الروح المعنوية للجنود.
الطريف فى معركة رأس العش، أنها تم تصويرها بعدسات كاميرات محطات التليفزيون الأمريكية التى سمحت لها القيادة الإسرائيلية بالوجود مع القوات لتصوير احتلالها لمدينة بورفؤاد.
ولم تكن معركة رأس العش وحدها التى رفعت الروح المعنوية للجنود المصريين، بل توالت المعارك الصغيرة الناجحة، ففى يوم 14 يوليو طلبت من الفريق مدكور أبوالعز، قائد القوات الجوية، قصف العدو الإسرائيلى لرفع الروح المعنوية وتوصيل رسالة للعالم مفادها أن الجندى المصرى لم يفقد القدرة على القتال برغم تفوق العدو، وبالفعل ارتفعت نسورنا إلى سماء سيناء وقصفت قوات العدو بعنف، الأمر الذى فاجأ القوات الإسرائيلية وأذهل العالم.
وفى 21 أكتوبر 1967 سجلت البحرية المصرية حدثاً فريداً فى تاريخ الحروب البحرية على المستوى العالمى، ففى ذلك الوقت تقدمت المدمرة الإسرائيلية إيلات فى غرور، ووصلت إلى مياهنا الإقليمية أمام مدينة بورسعيد، وانطلقت لنشاتنا الصاروخية تسبقها لتطلق صواريخ بحر لأول مرة فى الحروب البحرية لتسكن المدمرة إيلات التى تمثل نصف القوة البحرية الإسرائيلية فى ذلك الوقت قاع البحر وتغرق معها آمال المؤسسة العسكرية وغطرستها.
وكنت أتوقع من إسرائيل رداً عنيفاً على الجيش المصرى عبر ضرب ميناء السويس الذى كان مكدساً بالمراكب وخزانات البترول؛ الأمر الذى يجعل من الميناء صيداً ثميناً جداً للعدو، وكان الأمر سيتحول إلى كارثة فعلية لمصر فى حالة ضرب إسرائيل ميناء السويس، وأرسلت تقريراً للرئيس جمال عبدالناصر استعرضت فيه خطورة الموقف والتوقعات المحتمل حدوثها، فأمر بإخلاء ميناء السويس فوراً من البواخر ونقلها إلى خليج السويس بعيداً عن الميناء، كما أمر وزارة البترول فى القاهرة بإخلاء خزانات البترول، وبعدها مباشرة حدث ما توقعته حين شن العدو غارات على السويس، لكن الخسائر لم تكن كبيرة بعد أن استبق جمال عبدالناصر الغارات بقرار إخلاء القناة من المدنيين، وكان هذا بداية التهجير.
وتوالت العمليات الاستنزافية والقتالية لكنها كانت فترة عصيبة؛ لأن الجبهة كانت واسعة وتحتاج إلى سيطرة أكبر، وقتها رأيت ضرورة تقسيم الجبهة إلى جيشين ميدانيين، والعمل على إعادة تنظيم القيادة، وهو ما حدث بالفعل، وتوليت أنا قيادة الجيش الثانى، فيما تولى اللواء عدلى حسن سعيد قيادة الجيش الثالث.
طوال تلك الفترة، كنت أعانى قلقاً شديداً، حتى إننى قبل نومى كنت أحرص على وضع التليفونات إلى جانب السرير، ولا أستطيع النوم إلا بعد اطمئنانى على عودة جنودنا من الضفة الأخرى فى الأيام التى كنا نكلفهم فيها بعمليات خاطفة ضد العدو، وإذا أصيب أو استُشهد جندى أشعر بينى وبين نفسى بالذنب والمسئولية، وكثيراً ما كانت زوجتى تحاول التخفيف عنى، خاصة عندما أتحدث أمامها عن أى شهيد وأقول لها إننى كنت السبب فى يُتم أبنائه.
وأذكر أننى حينما ذهبت للجبهة بعد النكسة، وأصررت على أن أكون مثل الجنود فى كل شىء، حتى إننى كنت أنام فى كشك من الصاج، وأمارس عملى فى حجرة خشبية أسفل شجرة، وظللت هكذا حتى سقطت مريضاً بفعل الرطوبة والبرد الشديد، فتم بناء حجرة لى تحت الأرض بعيدة عن نيران العدو فى حال قصف الموقع الخاص بقائد الجبهة.
والحقيقة أننى لم أكن أهتم إلا بشىء واحد، كان هو هدفى الأساسى، وملخصه إعادة بناء وتنظيم الجبهة والدفاع عن عمق مصر، وتوجيه ضربات عسكرية موجعة للعدو الإسرائيلى كلما أمكن ذلك، وكان هناك العديد من الأبطال المصريين الذين سطروا معجزات فى تاريخ العسكرية المصرية ومن بينهم العميد الشهيد إبراهيم الرفاعى والذى أدى العديد من المهام الوطنية، ومنها على سبيل المثال تفجير إحدى المناطق الإدارية لنا فى سيناء التى كان العدو قد استولى عليها بعد انسحاب القوات المصرية، وخزن بها ما تم جمعه من سلاح وذخائر وعتاد عسكرى تركه الجنود دون أن يتمكنوا من العودة به. كانت المعلومات قد وصلت لى من بعض البدو الوطنيين، بموقع هذه المنطقة الإدارية فى شمال «الشط». وزاد إصرارى على تفجير الموقع لحرمان العدو من الاستفادة منه، فعهدت لمجموعة من خمسة رجال من أبطال الصاعقة بتلك المهمة بقيادة إبراهيم الرفاعى، فعبروا القناة فى قوارب صغيرة، وقاموا بتلغيم المركز كله، ثم عادوا سالمين إلى غرب القناة، ولن أنسى ما حييت مشهد النيران وهى تأكل المركز بالكامل، وعلمت أن القائد الإسرائيلى الذى كان مسئولاً عن هذه الذخائر قد قُتل فى هذه العملية، كما أذكر لإبراهيم الرفاعى عملية أخرى لا تقل عن الأولى فى عظمتها، حيث رصدنا عام 1968 أنواعاً جديدة من الصواريخ المثبتة على الضفة الشرقية للقناة، فكان لا بد من الحصول على أحدها لمعاينتها وفحص إمكانياتها، فأصدرت أوامرى لمجموعة من أمهر المقاتلين يتقدمهم إبراهيم الرفاعى بإحضار أحد تلك الصواريخ، فتسللوا بملابس الضفادع البشرية لموقع العدو فى الشط، وهم لا يحملون سوى خناجر وقاطعات أسلاك.. واستولوا على عدد من الصواريخ التى عادوا بها رغم الحراسة الإسرائيلية الشديدة. ولكنهم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وأقسموا على حماية الوطن..
كنا كلنا فى الجيش المصرى عقب نكسة يونيو 1967 نعلم، قادةً وجنوداً، أن يوم الثأر آتٍ لا ريب فيه؛ ولذا كان كل منا يعلم مهمته ويسارع لأدائها. وضعنا خطة دفاعية عن جبهة القناة، وعملنا تجهيزات دفاعية ممثلة فى حفر الخنادق والمواقع الدفاعية، وزدنا من ساعات التدريب الشرس بما هو موجود بالفعل بين أيدينا، وازدادت مدفعيتنا قوةً وثباتاً، فأصدرت أوامرى بإلحاق خسائر بالعدو عبرتوجيه ضربات مباشرة له وكان ذلك فى سبتمبر من عام 1968، فدمرنا بطاريات الصواريخ الإسرائيلية أرض/ أرض، التى كان العدو يقصف بها مدينة الإسماعيلية، ولعل ما قمنا به فى تلك الفترة كان الدافع الأساسى للعدو للبدء فى إنشاء خط تحصينات قوى يغطى خط المواجهة بأكمله، فكان خط بارليف.