ليس كل "اسلامى" حاملا للسلاح .. أو مؤيدا لحمله!"اسلاميون" كثر حلقوا فى أجواء من السعادة والفرح بعد وصول جماعة "الاخوان المسلمين" الى حكم مصر يوم اعلان فوز الرئيس السابق محمد مرسى فى انتخابات الرئاسة .. أسباب السعادة لديهم لم تكن ترتبط بمصالح سياسية او اعتبارات انتماء تنظيمى للجماعة ..
لكنها كانت تعود الى أنهم رأوا ببساطة أن الأفكار المثالية يمكن أن تصبح واقعا على الأرض .. وأن الحلم قد يغدو حقيقة فى النهاية .. لم يحلموا بسلطة أو حكم .. فهم ربما قابعون فى بيوتهم أو أعمالهم .. لا يعرفهم أحد .. لكنه حلم السنين المتمثل فى قيام "المجتمع الاسلامى" .. مجتمع الفضيلة والسعادة .. حتى يسود الخير كله .. ويعم لينشر الايمان والأمل .. ويبث الطمأنينة فى الأرجاء والأجواء. هكذا فكروا وحلموا .. حتى جاء الثلاثين من يونيو .. ليمثل ضربة حاسمة قاسمة "للأحلام" .. اضطربوا .. اهتزوا .. تزلزلوا .. فعادوا لينكفؤوا على "الأفكار" .. ويطووا الصدور على الآلام .. وعذابات السنين التى تجددت .. هكذا فكروا وتألموا ..
فمن أكثر حزنا ممن رأى بعينيه حلمه يتحقق ثم سرعان ما تسرب؟ لا أتحدث هنا بالطبع عن حاملى السلاح .. القتلة الارهابيين .. فالجيش والشرطة وكراهية البشر والحجر فى مصر لهم .. أولى بهم .. ولكن .. ليس كل "اسلامى" حاملا للسلاح .. أو مؤيدا لحمله! كتبت فى هذه المساحة الأسبوع الماضى مقالا بعنوان " لا تقرأ هذا المقال .. كنت وهابيا!" .. يمكنك العودة اليه الآن ان أردت .. لكن مضمونه العام كان دعوة لشباب "الاسلاميين" الى مراجعة الأفكار وطرح الأسئلة .. وشرحت سريعا رحلة تحولى - شخصيا - من الايمان بالفكر "الوهابى" الى الايمان بأن الحرية هى جوهر الدين ..
وجوهر السياسة .. وقلت ان "النفس المطمئنة" هدف كبير لا يمكن الوصول اليه الا "بالبحث" فى الأفكار .. "والعمل" على تطبيقها تدريجيا فى الواقع دون ارغام لأحد عليها .. مع الاستمرار الدائم فى المراجعة و"طرح الأسئلة" .. ضاربا المثل بمن هو خير منا .. ابراهيم الخليل عليه السلام .. عندما خاطب رب العرش العظيم قائلا "رب أرنى كيف تحيى الموتى". وقد أتاح لى هذا المقال بعد نشره .. أن أنخرط فى حوارات خاصة مع "اسلاميين" فكرا لا تنظيما .. أعرفهم وأحبهم .. كشفت لى كلماتهم عن عمق الأزمة .. وحجم الألم فى الصدور! صحفى شاب يقيم فى الولايات المتحدة الأمريكية حاليا
كتب لى قائلا:"أحاول منذ أكثر من عام البحث فى فكرة الحرية واﻻنحلال، مستغلا اﻻحتكاك بالمسيحيين واليهود والمسلمين والملحدين، وكيف يستعين البعض بآيات القرآن ﻻثبات معنى الحرية واﻻختيارات، كما فعلت أنت مع قصة سيدنا إبراهيم وأخذتها خارج اﻻطار، لأنه كان ثابت اﻻيمان وموقنا بقدرة الله على الفعل، ولم تكن الآية تشكيكا، انما هى توكيد لتلك القدرة. وأضاف "أسمع هنا عبارة دائمة من العرب المسلمين هى "خلى الدين في قلبك" كى يتماشوا مع طبيعة الدولة التي هم فيها، فما هذا الدين الذي يظل في القلب؟ أليس الدين هو منهاج و طريقة تعامل وتعاليم ﻻبد أن تظهر في كل افعالى؟ ..
اتفق معك فى أن لدينا اﻻختيار للإيمان أو الكفر، لكن الأمر الغريب هو أن المجتمع اﻻعلامى يحنو على الثانى ويلفظ الأول" (!) قلت له "ان الحرية هى أساس الدين .. بالأدلة التى ذكرتها سريعا فى المقال .. أما الآية الكريمة الخاصة بسيدنا ابراهيم فأنا لم أخرجها من سياقها ولم أقل أنه كان يشك، لاحظ نص الآية، "قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى"، هى تشير بوضوح الى أنه آمن بالفعل لكنه كان يريد الاطمئنان، وهذه مرحلة أكبر، وتشير أيضا الى أن رب العالمين لم يستهجن سؤاله رغم أنه نبى، بل عرض عليه بالدليل المادى ما يجعله "مطمئنا" .. "قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم" ..
أما مسألة ان يبقى الدين فى القلب التى يقولونها لك بالخارج فأنا لم أقل ذلك، ولا أدعو اليه، هذه رؤيتهم وأنا من يقول لك لا تنفذها، لكن اقرأ فى الدين وفكر بهدوء ودع الجميع يحب الدين من خلالك بأفعالك وسلوكك". والحق أن كلمات صديقى الصحفى الشاب قد دفعتنى أيضا الى "المراجعة"، ولم لا؟ ألسنا بشرا خطائين؟ عدت الى التفاسير حول الآية الكريمة المذكورة، ففى تفسير ابن كثير، وجدته يقول ان من بين الأسباب المذكورة لسؤال سيدنا ابراهيم لرب العالمين،
هو أنه أحب أن يترقى من علم اليقين إلى عين اليقين، فيما يتعلق بمسألة الاحياء والاماتة، وأن يرى ذلك مشاهدة، أى بعينيه. وشرح القرطبى موضحا ان الناس قد اختلفوا حول ما اذا كان ابراهيم الخليل قد سأل هذا السؤال بسبب شكه فى المسألة أم لا، لكنه قال ان جمهور العلماء قد أكدوا ان نبى الله لم يشك أبدا لكنه طلب المعاينة (أى أن يرى ذلك بعينيه)، لأن النفوس مستشرفة (أى متطلعة) إلى رؤية الشئ الذى أخبرت به، على حد قوله.
وقال الطبرى ان معنى "ليطمئن قلبى" أى ليوقن ، وقال سعيد بن جبير وإبراهيم وقتادة ان معناها "أى ليزداد يقينا". وقال بعضهم ان المعنى هو "لأزداد إيمانا مع إيمانى"، وفقا لما نقله القرطبى. والآن، وبعد تأمل كل هذه المقولات، أترانى اذن قد أخطأت عندما قلت ان ابراهيم الخليل قد آمن بالفعل لكنه كان يريد الاطمئنان، وهذه مرحلة أكبر؟ وبعد تأمل كل هذه المقولات .. ألا نفهم طبيعة النفس البشرية "المتطلعة الى الرؤية بالعين" رغم ايمانها؟ وألا نفهم كيف تعامل رب العزة عما يصفون مع هذه الطبيعة لدى المؤمن؟ فلم يكبته أو يوبخه فضلا عن أنه بالطبع لم يعذبه باعتباره كافرا .. ألا نفهم؟ وتتواصل حوارات الأزمة .. من الفكر الى السياسة .. رغم أننى فى المقال السابق لم أتعرض الى واقع السياسة فى مصر حاليا .. بل فقط الأفكار. سيدة فاضلة تعمل طبيبة، أحترمها وأقدرها كثيرا، أرسلت لها المقال كما أرسلته لآخرين من اتجاهات فكرية متعددة، طالبا الرأى فيه، كتبت تقول: "أنا لا أدافع عن أفكارهم أو سياستهم، ولا ينكر عاقل أنهم أرادو اقصاء غيرهم، لكننى لا أقر العنف من أى طرف، لا يجب أن نبيدهم وننكل بهم ونستحيى نساءهم وبيوتهم، من يحمل السلاح يحاسب، لكننا نحاسبهم عن أخطاء عامين بالقتل والاعتقال، ولم نحاسب من ظلم وأفسد وسرق 30 عاما".
وبكلمات "متألمة" أشعرتنى أكثر وأكثر بعمق الأزمة، أضافت محدثتى قائلة "أن تفقد الأمان فى وطنك، بل فى بيتك وفى مخدعك، لمجرد أنك تعتنق فكرة أو مبدأ، هو شئ مؤسف ومريع يا بنى، قرأت كثيرا عن اضطهادهم وتعذيبهم أيام جمال عبد الناصر، وهاهى سيرته معهم تعيد نفسها، من يتعامل أو يتعاطف معهم مدان من السلطة، أهكذا نحل المشكله؟ سنزيد الامر تعقيدا! اللهم احفظ بلادنا". قلت لها .. "بالفعل هو شئ مؤلم أن تفقد الأمان فى وطنك، بل فى بيتك وفى مخدعك، لمجرد أنك تعتنق فكرة أو مبدأ. لكن لابد من تذكر أن هذه الفكرة قد أدت الى دماء كثيرة من كل الأطراف، ليس اليوم فقط، بل على مر التاريخ، وهو ما أرى أنه يستوجب مراجعة الفكرة ذاتها، فالدين لم يأت ليهلكنا، بل ليسعدنا، والجهاد الأكبر هو جهاد النفس، وكما ذكرت فى المقال فقد آمنت طويلا بهذه الفكرة المهلكة، لكننى راجعت، وتراجعت، وحاولت فهم أمور كثيرة لم أكن أفهمها جيدا من قبل، وفقنا الله جميعا الى الخير، وأسعدك الله وبث فى قلبك الأمان والاطمئنان".
وأخيرا .. كيف ترى أنت الأمر الآن؟ أؤمن بأن بلادنا تخوض حربا شريفة لأجل الحرية .. حرب ضد فئة باغية .. اختارت حمل السلاح ضد الوطن .. فلابد من مواجهتها بكل حسم .. لا مفر أو تهاون أوتخاذل .. والهروب خيانة .. ولكن قل لى ماذا نفعل مع "اسلاميين" لا يحملون السلاح، ضاع حلمهم فانكفؤوا على أفكارهم، مسكونين بالألم، والغضب الدفين؟ ماذا نفعل معهم؟ قناعتى الراسخة .. ان مراجعات فكرية مهمة ستبدأ وسط صفوف هذا التيار .. هى قناعات وملامح معلومات أيضا تنتظر الاكتمال قريبا .. ولكن حتى يحدث هذا .. قل لى بالله عليك الآن .. ماذا نفعل؟ ماذا نفعل؟ أليس هناك من مجيب؟